الدولة تنتخب لمشروعها
لعلها مفارقة فريدة ومذهلة فعلا أن يجد لبنان نفسه أمام معمودية ديموقراطية وأمنية وعسكرية يتداخل فيها قبل تسعة ايام من موعد 7 حزيران كل "الافتراضي" بكل "الواقعي"، فيما تجري اسرائيل "محاكاة كيانية" غير مسبوقة لمناورات افتراضية على قصف صاروخي يستهدفها من كل الانحاء.
يضع هذا التزامن الاستحقاق اللبناني في خانة لحظة اقليمية بالغة التهيب بمنطق "بناء الدولة". فيوم 7 حزيران اللبناني ليس "محاكاة" افتراضية على الاطلاق، بل هو أكبر اختبار واقعي للجمهورية بكل عناصرها، الشعب والدولة والامن والسياسة والاجتماع والثقافة، وهذا هو البعد الاساسي الشديد الاهمية لاجراء الانتخابات في يوم واحد. ولبنان لم يختبر هذه التجربة منذ عقود مديدة، مما يعني ان نجاحه فيها او اخفاقه هو نجاح لمشروع الدولة او اخفاق له، في معزل عن أي اتجاه ترسمه نتائج الانتخابات نفسها.
ومع ان العالم كله، كما يتراءى للبنانيين، يمسك قلبه بيده ويجري "الرهانات" والحسابات الواجمة والقلقة حيال "أي لبنان" سيطلع عليه فجر 8 حزيران وأي سلطة ستحكمه، وأي نظام سيكون عليه، وأي "توليفة" يمكن ابتداعها في ضوء كل من الاحتمالين اللذين لا ثالث لهما ستفضي اليهما الانتخابات، فان معمودية اليوم الانتخابي الواحد تضحي في بعدها الاختباري للجمهورية على السوية نفسها من الاهمية والخطورة التي تقدمها المناورات الاسرائيلية من زاوية التعبئة الشاملة للدولة والمجتمع امام استحقاق داهم، افتراضيا كان أم واقعيا.
وسط هذه المقارنة يأتي الانهيار المتعاقب لشبكات التجسس لمصلحة اسرائيل وتساقطها على أيدي الاجهزة الامنية والعسكرية اللبنانية بمثابة عامل بالغ الايجابية في دفع مفهوم الدولة الى المعترك الانتخابي وادراجه في أولويات الناخب وخياراته الحاسمة، فيما يتعين على الاجهزة نفسها وسائر القوى النظامية والمؤسسات السياسية للدولة ان تقدم قبيل 7 حزيران وفي يوم الانتخاب الوجه المكمل لهذا الانجاز بحماية الديموقراطية اللبنانية وخياراتها الحرة ليستقيم الاختبار في وجهيه الديموقراطي والامني.
"فالدولة" هنا لا يمكنها بطبيعة الحال ان تنحاز الى أي من معسكري 14 آذار و8 آذار وإلا سقطت مشروعيتها واستعادت حقبة النظام الامني السوري – اللبناني ما بين 1992 و2005. لكن "الدولة" لا يمكنها ايضا الا ان تنتصر لمشروع الدولة بكل ما يمليه عليها من اجراءات وخطط وسياسات وأفعال تشكل البديل الحقيقي والنهائي من الخطر الجاثم دوما على لبنان في جعله ساحة للاستباحات المتنوعة والاختراقات والاضطرابات والفتن، ومشاريع تحميل لبنان مزيدا من أخطار المواجهات الاقليمية في حروب المحاور.
لذا يتجاوز البعد "المصيري" ليوم 7 حزيران مسألة أي أكثرية جديدة ستفرزها الانتخابات الى استفتاء اللبنانيين حول مبدأ الدولة. وفي هذا البعد الدولة لا يمكنها الا ان تكون "ناخبا" أول لنفسها عبر حماية هذا الخيار بكل ما يقتضيه من انجاح الاستحقاق وتوفير مستلزماته الحرة والشفافة والآمنة وكذلك إثبات قدرتها بلا قفازات وبلا وجل وبلا خجل على كونها الضابط الآحادي الذي لا يقبل شراكة في ادارة العملية الانتخابية كاملة في كل أنحاء لبنان. فالدولة في 8 حزيران لن تكون اكثرية وأقلية جديدتين او مستعادتين فحسب، بل سيكون معهما "مجتمع الدولة" بكل أجهزتها ايضا. والاختبار لن يسجل في مقدم نشرات الاخبار وعناوين الصحف بنتائجه السياسية فقط، بل سيتلاصق معه اختبار النجاح او الفشل للمجتمع السلطوي ومجتمع الحكم ومجتمع الاجهزة سواء بسواء لأن عيون العالم ستترصد بدقة، الى جانب النتائج، أداء هذه الدولة التي يتعين عليها لاحقا التكيف مع النتائج واستيعابها وترجمتها ضمن شرعية الخيار الديموقراطي وموجبات استمرار النهج الدستوري وحمايته. والامر هنا ليس "محاكاة" عسكرية دفاعية او عدوانية على النمط الذي تخطه المناورات الاسرائيلية، بل هو واقع ملتصق بالارض والناس والسياسة والامن عبر الانتصار لدولة لا تبقى مشروعا افتراضيا مؤجلا من دورة انتخابية الى أخرى.
نبيل بو منصف،،" الدولة" تنتخب لمشروعها ؟"، النهار،2009-05-29.