إذا المسلم خايف والمسيحي خايف
ديانا سكيني من برج حمود- جاؤوا متخففين من الاوهام والهواجس. قرروا المضي في ترسيخ اقدام احلامهم على ارض الواقع. لم يأبهوا بقلة عدد ولا بحاضر مثقل بالسدود وبالرصاص الموجه والطائش في وجه كل مؤمن بفعل التغيير الجذري، وكل مؤمن بان المساومة لم تعد تنفع مع طبقة سياسية اختلفت على كل شيء واتفقت على عدم قيامة الدولة من خلال ادائها الذي لم يكن على قدر آمال الشباب اللبناني الواعي والمثقف والذي هاله ان ينتزع اقرانه المصريون والتونسيون باسنانهم التغيير في حين يكتب لهم التقاعس بفعل القفل الطائفي المحكم. الخروج عن النمطي صرخوا «كفى والف كفى لا نريد لبنان الحمص والتبولة - نريد لبنان الدولة». لا نريد لبنان المزارع والبلطجة والسرقة . «نحنا مش ديك مريّش لتنتفونا كل ما تجوعوا». «الطائفية مرض عضال نريد استئصاله». صرخوا ايضا وايضا. صرخوا في يوم بدا حافلا ورائعا لكل من قرر الانخراط في معركة «كسر عضم» مع الطائفية ومنظوماتها الراسخة في كل حي وشارع ونفس. في الدورة تجمعوا. المكان غريب؟ لم يحدث ان شهدنا تظاهرة هناك؟ نعم صحيح. للوهلة الاولى يبدو الخروج عن النمطي من اماكن التجمع مربكا لكنه سرعان ما يتحول الى جاذب محرض على اكتشاف الجديد. تقترب الساعة من الثانية بعد الظهر. تتكون نواة التحرك الاولى من منظمين وحشود حاملة لليافطات المتقدمة للمسيرة. تصل الباصات من طرابلس وصور وصيدا والهرمل والشوف. يكتمل الحشد. العيون كلها تترقب نتيجة اختبار الشارع الذي تخوضه القوى المستقلة المطالبة باسقاط النظام الطائفي بعد ان نجحت في تسيير تظاهرة ضمت الآلاف الاحد الماضي في مار مخايل في ظل طقس ماطر. الوجوه تكتشف بعضها للمرة الاولى على خلاف تظاهرة الاحد الماضي حيث تكوّن جل الحشد من مجموعة عرف عنها انضمامها للتحركات التغييرية في اكثر من محطة سابقة. اليوم الشمس تسطع والسماء تقرر الا تمطر. لكن الرغبة في تحدي المطر والعواصف حاضرة اليوم ايضا في النفوس والقلوب والحناجر والقبضات. وجوه جديدة تحدق بعيون المكتشف المستغرب الهاتف المتمرد الثائر والمتماهي مع جموع تصنع مشهدا لبنانيا جديدا. منهم من اكتشف برج حمود سيرا على الاقدام للمرة الاولى فامضى وقتا طويلا يحدق في وجوه اهلها ويصرخ متوجها الى امرأة تقف على شرفة او رجل يجلس خارج محال الاحذية شارحا اهداف التظاهرة ومناشدا اياهما الانضمام الى تحرك ينشد العدالة الاجتماعية والمساواة تحت سقف الدولة الديمقراطية المدنية العصرية. لذلك لم يتعب زائرو الظهيرة في برج حمود امس من ترداد هتاف «يلي واقف علبلكون نزال لاقي شعبك هون» . جنبا الى جنب ساروا. «الشعب يريد اسقاط النظام». اغنيتهم الجميلة. لكن ايضا «طأ طأ يا زمان الطائفية». و»ثورة ثورة عالفساد، ثورة ثورة في كل مكان، وجايي دورك يا لبنان». «ثورة عالطائفية، ثورة للعلمانية». وللزعماء رسائل متعددة ومتشعبة في مغازيها ولعل ابرزها هتاف يقول «حرقتو دمي سنين وحرقتو مستقبل ولادي حلوا عن بلادي». فئات كثيرة شكلت نسيج تظاهرة تحاكي في تركيبتها شرائح واسعة من المجتمع. هكذا سار طالب الجامعة اللبنانية جنبا الى جنب مع طالب الجامعة الاميركية حيث مطلب التغيير جامعهما. احدهما رفع شعارا كتب عليه «المسلم خايف والمسيحي خايف طيب مين عم يحمي هالنظام؟» وآخرهما عمل جاهدا على ابراز يافطة كتبها بخط يده تطالب بخفض سن الاقتراع الى 18 سنة. وبين الاثنين سارت فتاة جميلة توزع منشورات داعمة لنيل المرأة اللبنانية حقوقها في مناسبة حلول يوم المرأة العالمي. وجوه سياسية ونقابية وثقافية وفنية. من هذه الوجوه من كان منذ فترة على ضفاف 8 او 14 لكنه سرعان ما تلقف جاذبية مشروع لا تصعب معه جردة الحسابات كل فينة واخرى. حضرت هذه الوجوه في التظاهرة دون ان تخطف الانظار حيث بدا لوهلة ان القرار المركزي سار بشكل حديدي في نفس كل من شارك في التظاهرة . فالجميع هنا لا يرغب في نجوميات تتصدر واجهة هذه الحركة تماما كما هو كاره لمزايدة احزاب في دعوة انصارها للمشاركة في هذه التظاهرة بصفتهم الحزبية. رجال الدين حضروا ايضا. هكذا سار الشيخ علي الصياد بين المتظاهرين مجاهرا بانه مع فصل الدين عن الدولة ومع اسقاط النظام الطائفي، في سابقة قلما شهدها المشهد اللبناني. الى ذلك اختزلت الامتار التي اجتازتها تظاهرة الآلاف رمزية سوسيولوجية كبيرة حين سار المحتجون ضد الطائفية ورموزها وفسادها في برج حمود بين الابنية القديمة التي اعتلى سكانها الارمن الشرفة مكتشفين حركة سياسية جديدة لم تسمح لهم الظروف كي يكونوا على تماس معها في الماضي. لكنهم سرعان ما تفاعلوا معها. منهم من رفع شارة النصر من على مبنى ومنهم من رش الارز وماء الزهر على الجموع السائرة والهاتفة بقوة الحناجر واصرار القبضات. خارج محل النقانق في برج حمود يقف غريغور متابعا خطى المتظاهرين. تسأله موقفه فيبدي تأييده للشعارات التي رآها حتى الآن «جميعنا مع ما يقولونه لكننا لا نعرف من هم بالظبط». يسأل مع اي حزب هم؟ تخبره انهم مستقلون. فترتسم علامة الدهشة على وجهه. وهي دهشة لا تعدو كونها متصلة بالجديد الذي تصنعه هذه الحركة في بلد استنزفه صراع 8 و 14 لست سنوات ماضية ولم يمل بعد. يقسم المنظمون انفسهم الى ثلاث نقاط فاصلة في التظاهرة . تتصدر يافطة كبيرة مطالبة بالغاء النظام الطائفي وتحقيق العلمانية جموع المتظاهرين عند كل منها حيث يقف احد الهاتفين من المنظمين مردداً الشعارات بحناجر لا تعرف التعب ولا الملل فينجح في اذكاء الحماسة لدى الجمهور الذي لا يتقاعس عن ابتداع شعاراته الخاصة وينجح في استقطاب الهاتفين لها. وجْه جنيد سري الدين ذو الملامح الثورية ينطق بلغة التصميم . تعابير وجهه وهو يقود التظاهرة ويردد شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» تكاد تحفر في الحجر كلمات اغنية ثورية جميلة تنجح في العشعشة في نفوس المحتشدين. تدخل التظاهرة احياء الجميزة الراقية فتغادر الاحياء الفقيرة لتنخرط في حيز اجتماعي جديد. هنا يقطن السكان الذين قلما تشجعوا على المشاركة في التظاهرات حتى في حمأة2 تظاهرات 8 و14 . هؤلاء وقفوا بالامس بكثرة على الشرفات يرقبون الزائرين في فترة الظهيرة. بعضهم حمل كأسه وشرب نخب المتظاهرين وبعضهم الآخر تصالح مع مطالبهم بعد ان كانت تشي نظراته الاولى اليهم باستغراب وتردد وامتعاض. اما المشهد الذروة برمزيته فامكن تسجيله من خلال ردة فعل احد الشبان الذي اخذ يرقب المسيرة طيلة نصف ساعة متأملا شعاراتها وهتافاتها متناغما مع اغانيها الثورية وحناجر هاتفيها. هذا الشاب لن يتردد في تأدية حركة لا يعرف مدى عكسها مضمونا غير ظرفي، لن يتردد في نزع العلم الحزبي الذي علقه على شرفته. فكان ان قابله المتظاهرون بالهتاف والترحاب ودعوه للانضمام الى صفوفهم. عند شركة الكهرباء، ختم المتظاهرون تظاهرتهم بترداد النشيد الوطني اللبناني امام واحدة من المؤسسات الشاهدة على فشل النظام في ارساء دولة تؤمن مصالح الشعب بسبب الفساد الملتحف بالطائفية. وهناك ايضا، تحت احدى شجرات السرو المعمرة، وفي سيارة الناشط باسل عبد الله جلس كبير الحركة العلمانية غريغوار حداد. لم يقو المرض على هزيمة قدرة المطران الاستثنائية على التفاعل مع الشباب الراغب في التغيير . في عينيه سكينة تطمئن الى ان ما زرعته الاجيال السابقة لم يذهب هباء ولم يقدر ارباب الامر الواقع على تشتيته. اليوم يرى حداد نفسه شابا مناضلا من جديد يتفاعل مع حناجر وقبضات الشباب ويقول لهم «انتم الامل وانتم التغيير. نصيحتي لكم بأن تستمروا.. والا تفسحوا للخيبة مكانا في نفوسكم مهما تكاثرت الصعاب..».
ازقة الفقراء اللبنانيين والاجانب الى الجميزة -الاحياء الراقية الى شركة الكهرباء رمز شلل المؤسسة الرسمية.. اكثر من بعد سوسيولوجي ونفسي اثبت صوابية اختيار منظمي حملة اسقاط النظام الطائفي لمكان وزمان تظاهرتهم الثانية التي نجحت امس بحشد الآلاف وبشكل فاق توقعات المنظمين على ما عبروا. اثبتت تظاهرة «6 آذار» احتمال اجادة حملة اسقاط النظام الطائفي للعبة الارض في اختبارها الثاني. الأمر الذي وضعها امام مسؤوليات جمة ليس آخرها ضرورة الجدارة في مواكبة الرأي العام العريض المتفاعل معها، الرأي العام الذي تظاهر وذلك الذي لم يفعل حتى الآن. المسؤولية تتأتى ايضا من ازدياد يقين الحملة من تضافر الظروف «الواقعية» الكفيلة بتأمين حالة انفلاشية لحراكها في المجتمع اللبناني. وهي الحالة التي قد تشكل ظاهرة مفاجئة لمن لم ينكب بعد على دراسة نتائج وابعاد الكبت المتراكم المتأتي من اجهاض المشاريع التغييرية السابقة ومن العقم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يصيب هيكل الدولة منذ عقود..
نسيج التظاهرة
على جانبي الطريق اصطف عشرات العمال من سيريلنكيين وهنود وبنغلاديشيين يرقبون الحدث. الضحكة على محياهم ولمعة البؤبؤ تحاكي ثورة كامنة في نفوس ناقمة على القدر والظروف واللاعدالة التي رمت بهم في بلد متقاعس عن تأمين العدالة لمواطنيه.