هالة حمصي- 
مدهش المستقبل الذي يخبر عنه البروفسور حبيب داغر و"يصنعه" وفريقه: جسور تُبنَى خلال اسابيع قليلة، لا بل ايام معدودة، مواد بناء ثورية صديقة للبيئة، طاقة متجددة اقل ما يقال عنها انها مذهلة في فاعليتها ولامحدوديتها. كلامه ليس مجرد كلام استشرافي، بل بات واقعا تشهد له مشاريع ناجحة تمت، واخرى قيد الاعداد، وهو كلام مسؤول. 

البروفسور داغر يتبوأ احد اهم المناصب العلمية الرئيسية في الولايات المتحدة الاميركية: مدير مركز AEWC Advanced Structures & Composites Center(1) في جامعة ماين، المركز الفريد في العالم، الرائد في تطوير فاعلية المواد المركبة وادائها، لا سيما في عمليات البناء والانشاءات. 

وان يُختار لبناني، ابن بكفيا تحديدا، لهذا المنصب امر مميز. وان تختاره في بداية هذه السنة جريدة "بانغور دايلي نيوز"، وهي جريدة رائدة في ولاية ماين الاميركية، احدى الشخصيات الـ11 "التي ستغيّر مستقبل الولاية"، يعكس الى حد بعيد تميّزه وابداعه. تحت قيادة هذا الاستاذ لمادة الهندسة المدنية والانشائية في جامعة ماين، نما المركز الذي تستضيفه جامعة ماين في حرمها، في مساحة تبلغ 48 الف قدم مربع(2)، ليشمل خلال 10 اعوام فقط 40 كلية، فريق عمل بدوام كامل، توظيفا سنويا لـ 150 خريجا او في طور التخرج من 15 قسما اكاديميا مختلفا... اضافة الى حصيلة دسمة: تكنولوجيات عدة للمستقبل(3).


آخر صيحة الجسور "في حقيبة ظهر"

ما كان يدور في بال داغر وفريقه من اول الطريق، اعتقد كثيرون "انه غير ممكن، وقالوا لنا لا تضيعوا وقتكم، لن تحققوا ذلك اطلاقا. لكننا ادركنا ان هناك وسائل افضل للقيام بالامور"، يقول داغر للـ "النهار"، في لقاء معه خلال زيارته لبنان اخيرا. وما توصل اليه المركز بعد اعوام عدة من الابحاث المتواصلة شكل ثورة في مجال البناء والبنى التحتية: الالياف المركبة والراتنج، بدلا من الصلب، لا بل اقوى منه، وقدّم احدث "صيحاته": "جسر في حقيبة ظهر" (Bridge in a Backpack). 

شهرة هذه الصيحة بلغت مختلف ارجاء العالم، وتشهد جسور في ماين لنجاح هذه التكنولوجيا الحديثة: "نيل بريدج" في بيتسفيلد كان الاول الذي "دشنها" العام 2009، "نورث انسون بريدج" بُني بفضلها في غضون 10 ايام فقط مع ازالة القديم، "ونحن الاوائل في تحقيق هذا الانجاز"، على ما يفيد داغر. ويعلن: "اليوم نبني بواسطة هذه التكنولوجيا في ماين اطول جسر في العالم، بحيث يصل طوله الى 500 قدم". 

منذ أنشأته "المؤسسة الوطنية للعلوم" الاميركية (National Science Foundation) عام 1996، كان الهدف "ان نجمع بين مواد البناء التقليدية والمتقدمة، من اجل ايجاد مواد جديدة تستخدم في مجال البناء والتطبيق العملي"، يقول. وانطلق المركز في اول حزيران 2000، وبدأ بحثه في المواد المركبة (Composite Materials). "نركز على سبيل المثال على الراتنج (Resin)، والالياف (Fiber)، مثل الالياف الزجاجية (Fiberglass) والياف الكاربون (Carbon Fiber) والياف كيفلر (Kevlar Fiber)، وغيرها من الانواع". 

وفي اطار الهدف الذي انطلق على اساسه، يتعاون المركز مع شركات من كل ارجاء العالم "لتطوير مواد المستقبل في البناء والانشاءات". "فهذا المركز الفريد من نوعه في العالم"، على ما يصفه داغر، يجمع "ثلاث وظائف تحت سقف واحد: التصميم، التصنيع، واجراء الاختبار في المكان نفسه، وعلى احجام كبيرة. فنبني جسرا كبيرا في مختبرنا، ونجري عليه الاختبارات اللازمة للتأكد من فاعلية المواد المستخدمة فيه وصمود الجسر لمئة عام من حركة المرور عليه. هذه هي فوائد تكنولوجيتنا الحديثة". 

و"الجسر في حقيبة ظهر" خضع لكل الاختبارات اللازمة، ونجح بتفوق، ولاسيما على صعيد صلابة المواد والديمومة "مئة عام". الفكرة مذهلة. يقول داغر: "انه جسر يسع في حقيبة ظهر، وقد يكون طوله 70 قدما. الانابيب الفارغة المصنوعة من الياف منوعة تكون موضبة كأنها في حقيبة ظهر. وفي موضع البناء نفسه، تُخرَج، يُضَخ فيها الراتنج، تُطوى في شكل مقوس، لكونها لينة. وخلال ثلاث ساعات، تصير هذه المواد اقوى مرتين من الصلب. تثبت الاقواس في مكانها، ثم تغطى بالواح مصنوعة من مواد مركبة (Composite Decking)، فبطبقات من الاسمنت، فالرمل، ثم الاسفلت. الامر سريع جدا". 

واذا كان التصوّر "بناء جسور في شكل اسرع، في غضون ايام او اسابيع قليلة، تدوم اكثر، وبتكلفة اقل"، فان تفكير فريق المركز في جعل الالياف، ومعها الراتنج المُطوَّر، تحل مكان الصلب كان لادراكه ما يسميه داغر "خصوصية ثلاثية" لتلك المواد. "يمكن لفها ووضعها بسهولة في حقيبة ظهر، يمكن ضخّ الراتنج فيها بسهولة وطيها في الشكل المراد في موقع البناء نفسه، وصلابة المركبين، فهما قويان جدا". وبجسور ومواد البناء المستقبلية هذه، بدأ العالم يبدي اهتماما. وآخر المستجدات على هذا الصعيد، توقيع تفاهم مع شركة بناء روسية لاعتماد تقنية "الجسر في حقيبة ظهر" في عمليات بناء متعلقة باستضافة روسيا للالعاب الاولمبية الشتوية سنة 2014 في مدينة سوتشي على ضفاف البحر الاسود. "هذا الامر يشكل فرصة رائعة لايجاد فرص عمل في ماين، وفرصة تاريخية للمساهمة في نجاح هذه الالعاب الاولمبية"، يقول داغر.


مزارع الرياح العائمة

تكنولوجيا الطاقة المتجددة هي ايضا من مخططات المركز الرائدة. وتقتضي الخطة الرئيسية ببناء الف توربينة هوائية بشفرات متماوجة(wind turbines churning blades) في غضون 20 سنة، وبطول 220 قدما، بحيث تعوم على وجه الماء (لا تثبت كما الحال في دول اوروبية) على بعد 15- 20 ميلا من شاطىء ماين، وتصنع كلها ايضا من مواد مركبة. ويشير داغر الى ان شبكة مزارع الرياح العائمة تلك "ستؤمن الطاقة الكهربائية لكل بيوت الولاية" بتكلفة اقل، و"ستتيح استبدال السيارات العادية بسيارات كهربائية، اضافة الى تأمين 15 الف وظيفة، وجذب ما قيمته 20 مليار دولار من الاستثمارات الخاصة".

المدهش ايضا في امر هذه المزارع انه باستخدام عدد معين من هذه التوربينات الضخمة في مساحة محددة، "يمكن توليد طاقة بمقدار طاقة منشأة نووية". المسألة جدية جدا بالنسبة الى المركز. ومختبره للرياح البحرية قيد الانشاء حاليا على مقربة منه، وعلى مساحة تبلغ 37 الف قدم مربع. فالطاقة المتجددة اهميتها محسومة بالنسبة الى داغر. "لقد اصبحت من الحاجات الماسة عالميا. وباتت من القطاعات الكبيرة والواسعة المتنامية اليوم. وبالتكلم عليها، نتكلم على انبعاث اقتصاد عالمي جديد". 

اضافة الى المزارع الهوائية العائمة، يلفت الى انواع اخرى من الطاقات التي تستحوذ على الاهتمام والابحاث حاليا، منها الطاقة الشمسية، والطاقة المولدة من الامواج والمد والجزر والطحالب وانواع اخرى من النباتات. وتجاه هذه الثورة التكنولوجية التي يخطوها العالم بخطوات ثابتة، يجد داغر ان "لبنان يجب ان يكون معنيا اكثر بهذه الطاقة المتجددة. واذا لم يشارك فيها، فسيكون مستبعدا. تمييز فرص جديدة في الطاقة امر مصيري، ومن المهم ايجاد وسيلة لتحقيق الريادة فيها من اجل تأمين فرص عمل. العالم يتنافس حاليا في مجال الطاقة المتجددة. والدول المستعدة لها ستحصد فوائدها للاجيال المقبلة".


"بالعمل المضني والمثابرة"

عندما غادر داغر لبنان الى الولايات المتحدة قبل 34 عاما، كان في السابعة عشرة فقط. وكان حلمه من البداية الابحاث وحقول التطوير. "احب الاختراعات. كنت دائما هكذا، هذا الامر في دمي. الاختراع عالم مثير"، يقول. شهاداته العالية في الهندسة الميكانيكية والانشائية، الجوائز العديدة التي كوفىء بها، مقالاته البحثية العلمية، قيادته اللامعة، تكشف عن سر هذا القارىء لمستقبل العالم في الهندسة والطاقة. "انه العمل المضني والمثابرة"، يقول. والجائزة الاهم له تبقى "النجاح في تحقيق اي مشروع نعمل عليه". 
 من فترة الى اخرى، يزور داغر لبنان. وكل مرة يحمل اليه آمالا في وطن افضل. "هناك فرص كبيرة للبنان كي يكون رائدا في مجال التطوير التكنولوجي. وبالتأكيد لديه العقول الكفيلة تحقيق ذلك. هذا المجال مفتاح لكل بلد"، يقول. وفي قراءته لوجهة العالم، يرى ان "الصراع اليوم ليس طائفيا، او بين هذه الفئة او تلك، بل هو صراع تكنولوجي. والاستثمار في التكنولوجيا والابحاث والتطوير هو ما قد يحمل البلد الى مستوى آخر...انه مفتاح المستقبل". 
ورغم الاوضاع السائدة، يؤمن بقدرة لبنان على المشاركة في هذا الاستثمار. "يمكنه ذلك بالطبع. لديه افضل الجامعات... والمهم وضع خطة للمستقبل حول امور تجمع اللبنانيين، ونحققها خلال فترة زمنية معينة". الى جانب هذا الايمان، يتمسك داغر بالامل في "العودة الى لبنان والعمل فيه يوما من الايام. وسيبقى جميلا في عيني، ايا يكن".

(1) Advanced Engineered Wood Composites Center 
(2) www.aewc.umaine.edu 
www.deepcwind.org 
(3) خلال الاعوام الخمسة الماضية، حاز المركز اربع مرات الجائزة الاولى-ضمن فئات منوعة، والتي تمنحها الرابطة الاميركية لمصنعي المواد المركبة (ACMA).