أسعار الشقق تبرد...
جنون الاسعار الذي يعيشه اللبنانيون امتد الى كل ما قد يفكرون في شرائه، فكيف يمكن ان نتصور ان يبقى "الحق في المأوى" في منأى عن هذا الارتفاع الصاروخي؟ منذ نحو عامين وأكثر، تستمر أسعار الشقق والاراضي في ارتفاعات تدريجية أحياناً وغير منطقية في أخرى، الى درجة ان بعض متابعي سوق العقارات اشاروا الى ان سعر الشقق ارتفع نحو 10 في المئة خلال الفترة الممتدة ما بين بدء الحوار الوطني في الدوحة وتوقيع الاتفاق بعد 5 أيام! اما حالياً ومع تراجع بعض اتجاهات الارتفاع في الاسعار العالمية كالنفط ومواد البناء، يطرح السؤال نفسه: هل تنخفض أسعار الشقق؟ ومتى؟ والى أي حد؟
ارتبط ارتفاع أسعار الشقق والعقارات بسلسلة عوامل داخلية وخارجية، ساهم تعددها في أمد قصير برفع الاسعار الى مستويات "غير منطقية" وفق تعبير المهندس عبد الله حايك الذي يرئس شركة للتطوير العقاري. واذ تبدو العوامل الداخلية العنصر الاكثر تأثيراً في ارتفاع الأسعار، الا انها ليست وليدة الاعوام الماضية حصراً، بل تعود "بذورها" الى نهاية التسعينات وبداية عام 2000، حيث حاولت السوق العقارية "إعادة التقاط أنفاسها" اثر الأزمة التي عرفتها عام 1997 "وأوصلتنا الى بداية عام 2000 مع فائض في الشقق السكنية بلغ نحو 240 ألف شقة، وركود في السوق نتجت منه خسائر للمصارف والمهندسين وأصحاب الشقق".
ترافق الركود العقاري في لبنان مع بدء ارتفاع في أسعار النفط ونمو في دول الخليج وشمال أفريقيا، مما زاد في أعداد المهاجرين (التي لم تتوقف أصلاً) الى هذه الدول. وبدأ الواقع العقاري بالتبدل مع نهاية عام 2002 مترافقاً مع الطفرة التي بدأت تشهدها دول الخليج "حيث أفاد المغتربون اللبنانيون من كون أسعار الشقق في لبنان منخفضة مقارنة بدبي مثلاً حيث يكلف الستوديو المتوسط المساحة نحو 200 ألف دولار، بينما في حينه كان من الممكن الحصول على شقة في لبنان بنحو 100 ألف".
ارتفعت هذه الوتيرة "بعد التغيير الذي حصل عام 2005 وتغيّر نظرة اللبنانيين والعرب الى لبنان" وفق حايك، مما ساهم في ارتفاع الطلب على الشقق والعقارات، من دون ان يتأثر هذا الطلب بالاوضاع السياسية والامنية خلال الاعوام الاخيرة.
ويقول الامين العام لجمعية المصارف مكرم صادر، إن "الاتجاه المعاكس" للواقع السياسي والطلب على الشقق سببه ان "التحويلات المالية من الخارج ترتفع خلال الازمات لان الدعم الى الاهل يزداد في هذه الفترة، ولان المستثمرين المؤسساتيين يعلمون ان الازمات هي الوقت الانسب للشراء". ويلفت صادر الى ان ارتفاع الاسعار مدفوع في الاساس من زيادة الطلب اللبناني على الشقق من المقيمين والمغتربين على حد سواء "فمعظم اللبنانيين المقيمين في الخليج هم من أصحاب الدخل المحدود ولا يمكنهم شراء الشقق الفاخرة حتى في لبنان".
اما الاسباب الاخرى فارتبطت بالارتفاع القياسي لأسعار النفط ومواد البناء، اذ أظهرت مؤشرات البناء ارتفاعاً في أسعار الحديد خلال العامين الماضيين بلغ نحو 300% وزيادة في أسعار الاسمنت وصلت الى 70%. رغم ذلك، يلفت حايك الى ان أسعار الشقق ارتفعت بنسبة أكثر من ارتفاع الكلفة، ففي حين تشكل كلفة البناء 30% من السعر النهائي للشقق "رفع الكثيرون من التجار وأصحاب المشاريع هامش الربح الذي يتوقعونه، وافترضوا ان الاتجاه السائد في الارتفاع يضمن تحقيق ربح أكبر مستقبلاً".
دخلت المضاربة على خط العقارات والشقق، وجذبت الاراضي والشقق بدرجة أقل مشترين راغبين في استثمار أموالهم "من دون ان ينعكس ذلك بالضرورة في عمليات البناء" كما يقول حايك، اذ قام عدد لا بأس به بشراء أراضٍ بغرض اعادة بيعها، مما قلص في الوقت نفسه مساحة الاراضي المتوافرة من دون ان يوفر شققاً اضافية، الامر الذي ساهم في زيادة الفارق بين العرض والطلب على الشقق وساهم (مجدداً) في رفع الاسعار.
سعت المصارف الى تجنب المساهمة في المضاربات على رغم ارتفاع القروض السكنية التي قدمتها، حتى أيار 2008، الى ما مجموعه 1,5 مليار دولار من أصل 5,7 مليارات هي مجموع القروض الشخصية التي قدمتها، وهي زادت من نحو 1,3 مليار في كانون الاول 2007 ولم تتجاوز 990 مليوناً في كانون الاول 2005. ووفق صادر، فإن معدل القرض السكني لا يتجاوز 30 ألف دولار "لكن هذا يعني ان المصارف قدمت 50 ألف قرض سكني، وهو رقم مرتفع".
وصلت أسعار الشقق والعقارات الى مستويات قياسية لم تعرفها من قبل. ففي "جوجلة" لبعض الارقام، تبقى منطقة وسط بيروت (وخصوصاً الواجهة البحرية) المنطقة الأغلى، حيث يتجاوز معدل المتر في وادي أبو جميل 5 آلاف دولار وفي منطقة المارينا 6 آلاف دولار (الجدول المرفق). ويوضح حايك ان مشاريع الوسط التجاري "انطلقت أساساً بفارق كبير عن المناطق الاخرى"، ففي حين كانت منطقة فردان تصنّف الاغلى بمعدل سعر بلغ 1,500 دولار للمتر المربع "بدأ بيع الشقق في وسط بيروت بمعدل 3 آلاف دولار للمتر، رغم ان الاقبال على الشقق في سوليدير لم يكن مرتفعاً في البداية"، لافتاً الى ان بعض الشقق تباع بأكثر من 10 آلاف دولار للمتر المربع. أما في الاشرفية على سبيل المثال فيراوح معدل سعر المتر في بعض أحيائها ما بين 2 و5 آلاف دولار "من دون ان يعني ذلك ان المساحات المتوافرة كثيرة".
ويصل حالياً معدل سعر المتر في الحازمية الى نحو 1,500 دولار، حيث تعتبر شقة (150 م2) في حرج تابت في عداد "اللقطات التي لا يمكن تفويتها" وفق تعبير أحد السماسرة. اما في الزلقا مثلاً فيقترب سعر المتر من الالف دولار "علماً ان بعض اللقطات قد تتوافر أيضاً، لكن ليس بأقل من 150 ألف دولار" وفق السمسار نفسه.
هل تستمر الاسعار على مستوياتها المرتفعة، ام ان العوامل الجديدة تشجع على خفضها؟ في الفترة الاخيرة، عادت اسعار النفط التي شكلت عاملاً اساسياً في "صورخة" الاسعار، الى التراجع من دون العودة الى المستويات التي سبقت الفورة العقارية. كما ان هذا التراجع ساهم في استرجاع الدولار بعضاً من قوته تجاه الأورو. وتزامن هذان التراجعان مع قرب انتهاء فصل الصيف الذي شهد هذه السنة حركة افتقدها خلال الاعوام الماضية، أدت الى رفع الطلب على الشقق. كما ترافق ذلك مع ارتفاع في عدد رخص البناء المسجلة في نقابتي المهندسين في بيروت وطرابلس، حيث وصلت رخص البناء المسجلة في النصف الاول من 2008 الى نحو 4 ملايين و352 ألف متر مربع في بيروت، مقارنة بـ 3 ملايين و592 الف متر مربع للفترة نفسها من عام 2007، أي بزيادة نسبتها نحو 21 في المئة. اما في طرابلس فبلغت النسبة نحو 57 في المئة، من 475 ألف متر مربع في النصف الاول من 2007 الى 747 ألف متر مربع في 2008، مما يعني ارتفاع رخص الامتار المربعة بنحو 25 في المئة خلال سنة واحدة.
لكن الى اليوم، لا يظهر اثر هذه التراجعات وعمليات البناء واضحاً في السوق العقارية. فكل ما يحكى عن انخفاض في الاسعار و"فقاعة" عقارية قابلة للانفجار في أي لحظة يبقى في إطار "التكهنات والتوقعات" التي لا تثبتها الوقائع على الارض. لكن المتوافر يظهر ميلاً الى "تبريد" الاسعار وفق صادر، مرده الى تراجع النفط وأسعار المواد الاولية، وخصوصاً الاورو حيث ان معظم مواد البناء "مستوردة من أوروبا في ظل نسبة دولرة مرتفعة للاقتصاد اللبناني". في المقابل، يشير الى ان عدم توقع تراجع أكيد ووازن في أسعار الشقق مصدره "الفارق الكبير ما بين الاسعار في المنطقة ولبنان".
هذا الفارق يبرزه حايك متحدثاً عن الترابط ما بين اقتصادات المنطقة "فالاسعار ارتفعت في الاردن وسوريا وكل دول الخليج، ووصلت الى مستويات قياسية. واذا ما اخذنا في الاعتبار الصورة الشاملة لاقتصادات المنطقة، لا يمكننا توقع "انهيار" الاسعار لدينا فيما الاسعار على ارتفاعها في الجوار". أما المتوقع حالياً فهو "تصحيح للاسعار تختلف نسبته ما بين الشقق والاراضي، والنسبة الاكبر هي للشقق وقد تتجاوز الـ 50 في المئة لان الطفرة الحاصلة غير صحية وسنصل الى وقت يصير فيه التصحيح أمراً لا مفر منه".
من جهته يؤكد صادر ان موجة المضاربات القائمة "وان لم تكن بحجم فاعل" لا يمكن ان تستمر، مضيفاً ان "الاسعار في لبنان لا تزال منخفضة بالنسبة للدول المجاورة، وهناك نوع من التوازن الاقليمي المطلوب، والارجح ان الاسعار اقليمياً ستنخفض لتقترب أكثر من الاسعار في لبنان".
الانخفاض المرجو من شرائح واسعة من المجتمع لا يعني حكماً عودة الى الاسعار المتداولة قبل ارتفاع الاعوام الماضية: فالنفط وان تراجع الا انه بقي اعلى من مستوياته المعتادة. اما الاورو فعاد الى مستويات اكثر قبولاً. ويشير صادر الى ان الشقق والعقارات في لبنان "لم تفقد قيمتها في عز الحرب، واليوم بقاء الطلب على مستواه مرجح وهذا سيبقي الضغط على الاسعار ويمنع انهيارها"، لافتاً الى خطوات قام بها مصرف لبنان لتفادي "الفقاعة العقارية" عبر وضح حد لنسبة التمويل العقاري التي توفرها المصارف، بعد تصريحات لحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، تخوف فيها من أزمة مشابهة لما حصل عام 1997 "وقلقنا من الارتفاع المفاجىء للقروض السكنية في الاشهر الاولى من 2008. فالوضع الى اليوم لا يثير القلق لكن استمراره يطرح تساؤلات".
يرفض مصرفيون توقع انهيار سريع لأسعار العقارات في الاشهر الثلاثة المقبلة والاشهر الثلاثة الاولى من 2009. ويرفضون بالتالي الحديث في الموضوع لان نتائجه ستنعكس حكماً على مصارفهم وعلى حركة القروض. وقالوا ان اجراءات مصرف لبنان وتطمينات الحاكم رياض سلامة تؤكد متانة الوضع في لبنان.
لكن مسؤولاً في احدى الشركات المالية قال لـ "نهار الشباب": "توقعوا ان تشاهدوا في الاشهر الثلاثة المقبلة اعلانات كثيرة عن شقق للبيع، وتراجع حركة الشراء والقروض".
لماذا؟ يقول ان الازمة المالية العالمية ستنعكس حكماً على الحركة التجارية والمصرفية في دول الخليج العربي، وبالتالي على اللبنانيين العاملين في السعودية والامارات وغيرها، وسترفض مصارف خليجية منح الشباب قروضاً لشراء العقارات والشقق. وقد تصرف شركات ومصارف عالمية واقليمية من موظفيها، مما سينعكس سلباً على لبنان وسيعجز كثيرون عن سداد قروضهم والاقساط المطلوبة منهم لاستكمال ثمن الشقق.
خلال اعداد هذا التحقيق تابعتُ اعلانات عقارية في الصحف اليومية وعدد من الصحف الاعلانية. وقد عرضت احدى الشقق في منطقة الزلقا بـ 125 ألف دولار، وبعد توقف الاشتباكات في طرابلس والبقاع رفع السعر الى 135 ألفاً، ثم الى 150 ألفاً، لكن سعر الشقة نفسها تراجع خلال الاسبوع الفائت الى 130 ألفاً.
وهكذا يبدو انه رغم الطلب على الشقق، فإن ثمة ركوداً في عدد من المناطق والاحياء، وبالتالي فإن التجار سيكونون مجبرين على اعادة خفض الاسعار والتقليل من أرباحهم التي بلغت نسباً عالية من دون اي رقابة على الاسعار.