بات من المشاهد المألوفة التي تتزامن مع مؤتمرات القمة في العالم مشهد القمم والمؤتمرات المضادة او الرديفة التي تنظمها المنظمات المدنية المستقلة استقلالا حقيقيا عن الحكومات. ويسعى القائمون على هذه المؤتمرات والأنشطة الرديفة الى تأكيد اهمية وجهة نظر القوى التي يمثلونها تجاه القضايا المدرجة على جدول اعمال القمم الرسمية، مثل قضايا الفقر والتنمية والتجارة الدولية والديموقراطية وحقوق الانسان. وتعمل المؤتمرات الرديفة على تحقيق هدف مزدوج. انها من جهة تعمل على تعريف الرأي العام العالمي بوجهة النظر التي تعبر عنها، كما تسعى الى إقناع النخب الحاكمة بتبنّي مطالبها واقتراحاتها.
لقد حققت العديد من المؤتمرات الرديفة نتائج مهمة بحيث تحولت بعض المنظمات التي ساهمت في تحضيرها الى مصدر مهم من مصادر المعرفة والتقنية المتقدمة تستعين به الحكومات. واكتسبت بعض المؤتمرات الرديفة أهمية على الصعيدين الاعلامي والسياسي توازي اهمية القمم الرسمية. وكانت هذه النجاحات، في اكثر الاحيان، حصيلة إعداد جيد للمؤتمرات الرديفة تضمن تنظيم سلسلة من ورش العمل والمحاضرات والندوات الرامية الى الاستفادة من الاهتمام الاعلامي الواسع الذي يحيط عادة بالقمم الرسمية الدولية.
هكذا حققت بعض القمم والأنشطة المضادة او البديلة او الرديفة نجاحات فاقت ما كان متوقعا منها مثل القمة الرديفة التي نظمت بمناسبة القمة العالمية للتقدم الاجتماعي التي انعقدت في كوبنهاغن عام 1995. كذلك حقق المؤتمر الرديف الذي نظم خلال عام 2001 بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي حول العنصرية في دوربان في جنوب افريقيا نتائج باهرة. وبرزت اهمية هذه النتائج في ردود الفعل الاسرائيلية على ادانة المؤتمر للممارسات العنصرية في اسرائيل وفي الضغوط التي يمارسها الاسرائيليون بدعم من الولايات المتحدة على الهيئة التحضيرية للمؤتمر العالمي الرابع حول العنصرية الذي سوف ينعقد في جنيف خلال الشهر المقبل.
ان تنظيم هذه القمم والانشطة المضادة او البديلة او الرديفة لم يعد محصورا بالمناسبات العالمية فحسب، بل بات ايضا من الظواهر المرافقة للقمم الاقليمية مثل قمم الاتحاد الاوروبي ومؤتمرات «آسيان» في جنوب شرق آسيا، و «ميركوسور» في اميركا اللاتينية والاتحاد الافريقي في القارة الافريقية. الفارق بين المؤتمرات العالمية الرديفة وبين تلك التي تنظم على نطاق اقليمي، يعكس الفارق بين القضايا التي تتسم بالطابع العالمي وبين تلك التي تتسم بالطابع الاقليمي. هذا الفارق يعكس تعدد مستويات العمل المطلبي ومجالاته وقضاياه. فهناك مطالب ترفع الى الحكومات المحلية لأنها محلية الطابع، وأخرى ترفع الى القمم الاقليمية لانها ذات طابع اقليمي، ونوع من المطالب يرفع الى القمم العالمية لأنه أممي وانساني الطابع.
رغم انتشار هذه الظاهرة على المستويين الدولي والاقليمي، فإنها لم تصل الى المنطقة العربية بعد. فحتى الآن تمر القمم العربية الرسمية من دون اي ان تواكبها انشطة بديلة او رديفة. ولئن كان من البديهي، اخذاً بعين الاعتبار الاوضاع السياسية في المنطقة العربية، ألا تنعقد قمم مضادة. فإنه ليس هناك من سبب بديهي يفسر الغياب الكامل للقمم او الأنشطة الموازية او حتى الرديفة التي يمكن تنظيمها بمناسبة انعقاد القمم العربية.
واذ نتحدث عن غياب او محدودية هذا النوع الاخير من الانشطة، فإنه ينبغي التأكيد على اننا لا نقصد هنا تلك الانشطة التي تندرج في اطار الترتيبات التزويقية التي تنظمها الهيئات التحضيرية الرسمية للقمم العربية. المقصود هنا خلو مواسم القمم العربية من الانشطة التي تضطلع بإعدادها منظمات تمثل المجتمعات المدنية العربية المستقلة والمعنية بالشأن العام، وبأحوال المنطقة. ولربما كان لهذه المنظمات بعض العذر عندما لم تكن هناك مواعيد محددة لانعقاد القمم العربية. ولكن هذا المبرر لم يعد قائما بعد التزام الدول العربية بمبدأ دورية القمة وبمواعيد يعلن عنها سلفا، فما هو السبب اذن في تفويت الفرص التي تقدمها القمم العربية للتعريف بمطالب القوى المعنية بالشأن العام في المنطقة العربية، ولتنظيم تحركات مطلبية تسعى الى اقناع الحكومات العربية بإدخال اصلاحات حقيقية على النظام الاقليمي العربي؟
الإجابة على هذا السؤال تستحق بحثا مستفيضا حيث انها لا تتعلق بمؤتمرات القمة وردود الفعل عليها فحسب، ولكنها تتطرق بالضرورة الى جوانب كثيرة في السياسة العربية. ويأتي في مقدمة هذه الجوانب ما هو متعلق بنظرة سائدة بين العديد من الهيئات والمنظمات والجماعات المستقلة وشبه المستقلة العربية تجاه أمرين مهمين:
الاول، هو النظرة الى النظام الاقليمي العربي او الى ما يدعوه البعض "البيت العربي". فلا ريب ان النظرة السائدة تجاه النظام الاقليمي العربي لدى اكثر اوساط الرأي العام في المنطقة هي نظرة سلبية ولا تتوقع الكثير منه ولا من المؤتمرات ولا من القمم العربية. ولئن ساهمت اكثر الحكومات العربية بالتسبب في هذا المناخ اليائس بسبب الافتقار الى الاستراتيجيات السليمة في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها المنطقة ولأنها تمتنع عن الالتزام بما توافق عليه هي نفسها في اطار القمم والمؤتمرات الاقليمية، فإن هذا المناخ لم تتسبب به الحكومات العربية وحدها فحسب، بل ساهمت في صنعه اطراف متعددة خارجية وداخلية.
من هذه الاطراف قوى كبرى ودولية اعلنت الحرب سلفا على النظام الاقليمي العربي حتى قبل ولادته. ولكن من بين هذه الاطراف جهات محلية وعربية تشن حربا موازية على كل ما يمت بصلة الى التعاون الاقليمي العربي. وتتخذ هذه الحرب اشكالا متنوعة منها ما هو معلن وصريح، ومنها ما هو مستتر. ولعل هذا الشكل الاخير هو الاكثر فعالية. ففي الظاهر، يحمل الكثيرون من الكتّاب والساسة العرب على النظام الاقليمي العربي لانه «عاجز» و «فاشل» و «لا خير فيه ولا امل يرتجى منه».
تبدو هذه الاحكام وكانها من باب الترحم على القضية العربية والحرص عليها. ولكنها في الواقع لا تختلف كثيرا عن اللغة التي يستخدمها اشد المناهضين لهذه القضية مثل بنيامين نتانياهو الذي لم يكف عن اظهار استخفافه بقرارات القمم العربية ودوري غولد سفير اسرائيل السابق الى الامم المتحدة وأحد المحللين الاسرائيليين البارزين الذي دأب على تحذير قادة الغرب من اخذ العمل العربي الجماعي على محمل الجد.
ان هذه الأحكام والمواقف لا تبتعد عن الواقع حين تشير الى عوامل الضعف في النظام الاقليمي العربي. بيد ان اصحاب هذه الاحكام، حتى ولو ارتدوا احيانا ثياب المؤيدين للفكرة العربية، لا يقدمون خدمات معرفية مجردة الى الرأي العام العربي، بل يعبرون عن تفكير رغائبي وعن توق شديد الى اشاعة مناخات اليأس بين المتعاطفين مع هذه الفكرة. لذلك نجد ان نشاطهم لتسويق هذه النزعة المتشائمة يصل الى ذروته عندما تطل على ساحة العمل العربي المشترك بعض المبادرات الايجابية، وعندما تثير هذه المبادرات، مثل التحسن النسبي الذي طرأ على العلاقات العربية - العربية أخيرا، شيئا من التفاؤل لدى اوساط الرأي العام.
الثاني، هو النظرة الى العمل المطلبي ومن ثم الى مناهج وطرق التأثير على الاوضاع العربية. ان العمل المطلبي يندرج اساسا في اطار الحراك الديموقراطي ويستخدم ما هو متوفر من الوسائل السلمية من اجل تحقيق اهداف اصحاب المطالب. والمؤتمرات والقمم الرديفة تندرج عادة في اطار مثل هذا التحرك. ولسوف تبرز هنا مفارقة مهمة، فكيف يمكن تنظيم تحرك له طابع ديموقراطي ويحمل طابع المشاركة الشعبية في ظل اوضاع غير ديموقراطية؟ ان هذا الامر ممكن بدليل انه تجري تحركات ذات طابع مطلبي في اكثر الدول العربية مع ان هذه الدول لم تلج حتى الآن مرحلة توطيد الديموقراطية ولا حتى مرحلة الانتقال الحقيقي الى الديموقراطية.
ولكن هذا ما يقودنا مرة اخرى الى الملاحظة الاولى. ذلك ان الكثيرين ممن ينظمون هذه الحركات المطلبية لا مانع لديهم ان ينظموها في الاطار المحلي البحت، ولا مانع لديهم ان يتقدموا بمطالبهم الى الحكومات العربية منفردة، ولكنهم ليست لديهم برامج مطلبية ذات طابع اقليمي عربي، وليسوا مقتنعين بأهمية البُعد الاقليمي للسياسة العربية ولا هم راغبون في اضفاء مشروعية على التجليات المؤسسية لهذا البعد الاقليمي.
رغيد الصلح (الحياة) ، الخميس 19 آذار 2009
Ref: http://www.nowlebanon.com/Arabic/NewsArticleDetails.aspx?ID=84758&MID=87&PID=46