مذ أعلن القبطان عن بدء الهبوط في المطار، ووجوه العائدين والسوّاح ملتصقة بالنوافذ الصّغيرة، تحدّق في شواطئ هذا البلد الأسطوري وفي جباله، وفي بحره الذي استبدلوا رونقه الارجواني الفينيقي بدفق لا يتوقف من المياه المُبتذلة البنيّة اللون، بحرٍ منثورة على ضفافه كتل باطون عشوائيّة، محت معالم مجد الصيدونيّين والصوريّين والجبيليّين الذين جابوا الاميركتين بمراكبهم... ألفي سنة قبل الأوروبيّين.
وفيما تواصل الطائرة انحدارها، تحدّق العيون بجبال منخورة بمئات الكسّارات، ووديان غطت خضارها ردميّات البناء، وبقايا أحراج متفحّمة تقبع تحت غيمة من الغبار الصّحراويّ الأصفر... وتطلّ على الركّاب، المدينة التي بناها ساتورن بنفسه والتي يستمدّ منها القمر ضوءه، بنت الغابات الغابرة، وابنة البحر ومرفأ الحبّ وروعة الحياة، معاصرة الأرض والزمن، ومرضعة الفقهاء ورجال القانون. تطلّ بيروت مدينة مشوّهة المعالم، قبيحة الشكل، كأنها جثة إسمنتيّة مرميّة على شاطئ المتوسّط، على ضفّتها الشرقيّة جبلُ نفايات ينتصب كبقايا جيفة نتنة، وتعلوها شاهقات المقاولين التي تتمازج مع أحياء البؤس والخوف، من دون أيّ بقعة خضراء؛ هي التي كانت حارسة لهضاب جبل لبنان الظليلة، هي التي اخترقت التاريخ ناعمةً بهواء طيّب العطر، والتي تفيّأ في حدائقها وجنائن منازلها وقصورها ومعابدها الآشوريّون والفرس والرومان والإغريق والعرب، مروراً بالصليبيّين، وصولاً إلى الأتراك والفرنسيّين...
وما كاد الطائر يتحفّز للإنقضاض على المدرج، حتى دخل ضفّة بيروت الغربيّة بين بيوت وعمارات وغسيل منشور على جهتي المهبط، وبين أولاد يلعبون تحت جناحَي الطائر الكبير.
هكذا كان الهبوط، مرادفاً لهبوط القيمة السياحيّة للبنان في غضون الخمسين عاماً الماضية. اما الخروج من الطائرة، وبعد تجاوز مناداة الأسماء على طريقة "الغبّص واللقز والملّيفا"، وبعد الجوازات، فكان خروجاً إلى بلد يدّعي أنه سياحيّ، ولكنه بلد بلا عناوين. فلا أرقام ولا أسماء شوارع! وهذا لا شيء مقارنة بحال الأماكن الأثريّة والتراثية التي يتأكلها الزحف العمراني وتحاصرها النفايات، والتي تصلها مترحّماً على التاريخ وشاتماً الحاضر، على طرق مكسّرة، مجوفة وقذرة...
… فلا يبقى اذاً أمام السّائح إلا العيون السّود للإحتماء فيها ليلاً من بشاعات ما شاهد نهاراً.
فـ"جيب المجوز يا عبّود"، وفتّش عن أمْ عيون السّود... وشكراً لمحمود ومعروف والياس وحسين، ولكلّ من له يدٌ وإجر في استبدال بلد السّياحة ببلد الإستباحة والإباحة !
فيليب سكاف
الأربعاء 15 حزيران 2011 - السنة 78 - العدد 24419